التعريف بأسلحة الدمار الشامل - حكم استعمال هذه الأسلحة- أهم نتائج هذه الدراسة المختصرة.
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله العزيز الحكيم، ذي القوة المتين، وعد أولياءه بالنصر والتمكين في الدنيا، والفوز بدار النعيم في الأخرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبد الله ورسوله القائل: (بُعثت بين يدي الساعة بالسيف؛ حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجُعل رزقي تحت ظل رمحي، وجُعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم)([1])، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فلا يخفى على إنسان التقدم الهائل الذي وصلت إليه البشرية في شتى مجالات الحياة، وكان من أعظمها خطراً مجال التسلح العسكري، وما جَدَّ فيه من أسلحة شديدة الفتك والتدمير، تذر الديار بلاقع، وتهلك الحرث والنسل، حتى اصطلح على تسميتها بأسلحة الدمار الشامل؛ لقوتها الهائلة في التدمير، والمساحة الواسعة التي يصيبها الهلاك والتخريب، وآثارها السيئة على البيئة، وكل ذي روح من إنسان وحيوان، فكانت قمنة بأن تدرس، ويبين حكمها فتعرف، وهذا البحث محاولة لإماطة اللثام عنها، والكشف عن مكنوناتها، وقد سرت فيه على الخطة التالية:
المقدمة: ذكرت فيها موضوع البحث وخطته.
التمهيد: بينت فيه المقصود من البحث، ووجه كون هذه المسألة نازلة فقهية، وسببها.
المبحثالأول: التعريف بأسلحة الدمار الشامل، وتحته مطلبان:
المطلب الأول: تعريفها في اللغة.
المطلب الثاني: تعريفها في الاصطلاح العسكري.
المبحث الثاني: حكم استعمال هذه الأسلحة، وتحته مطلبان:
المطلب الأول: حكمها في القانون الدولي.
المطلب الثاني: حكمها في الشريعة الإسلامية المطهرة.
الخاتمة: ذكرت فيها أهم نتائج هذه الدراسة المختصرة.
تـنـبـيه:
كنت قد كتبت هذا البحث قبل سنوات، وبعد الحرب الأخيرة في غزة، رأيت مناسبة نشره، بعد أن أعدت صياغته، وترتيبه، وأسأل الله تعالى أن ينفع به، وأن يكتب لي أجره، ويتجاوز عما وقع فيه من تقصير.
تمهيد
المراد بأسلحة الدمارالشامل، أسلحة لم يكن الإنسان يحلم يوماً بها، ولا كان في وسعه تصورها، وإنما عرفها في القرن الأخير، بعد أن بلغ من التطور المادي والتكنولوجي مبلغاً عظيما، حير الألباب والعقول، وتنوعت مجالاته وتعددت، وكان من ثمراته تصنيع أسلحة امتازت بقدرتها الهائلة على التدمير، والقتل والتخريب، إنه السلاح النووي، والكيميائي، والبيولوجي.
لقد اصطلح على تسمية هذا الثالوث المدمر بأسلحة الدمار الشامل([2])، وتنافست الدول لتحصيلها، باسم سياسة الردع تارة، والدفاع عن النفس تارة أخرى، حتى صار وسيلة ابتزاز للشعوب والحكومات المغلوبة على أمرها، وكل من فكر في امتلاكه ضُيِّق عليه، وسيس بالترغيب والترهيب حتى يعدل عن طلبه، ويذعن لما يسمى الإرادة الدولية، أو القانون الدولي!!
إن الناظر في حال أهل الإسلام، وما نزل بهم من الذل والصغار، حتى اقتطعت أطراف من بلادهم، واستذل فئام من شعوبهم، ليرى فيهم مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم
يوشك أن تداعى عليكم الأمم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)[3] ، والسبب في ذلك تنكبهم لدينهم الذي فيه عزتهم، وتركهم للإعداد، وأسباب القوة التي يقارعون بها أعداءهم، فصارت بلادهم كلأً مباحاً لأمم الكفر، وشعوبهم مغلوبة على أمرها، تمضي من يد سيد إلى يد سيد.
إن الأمة الإسلامية إذا كانت تتطلع إلى سعادتها، وسيادتها في الدنيا، وفوزها بجنة ربها في الأخرى، فعليها أن ترجع إلى دينها رجعة صادقة، وتأخذ بأسباب القوة الرادعة؛ لتدفع الضيم عن أبنائها، وتسترد ما فُقِدَ من حقوقها وأرضها.
ولما كانت هذه الأسلحة حادثة، ولم تكن معروفة عند علمائنا الأولين، ولا عرفها فقهاء الأمة، تحقق فيها معنى النازلة في الاصطلاح، والتي قيل فيها: "الحادثة التي تحتاج لحكم شرعي"[4]، فكان لزاماً معرفة حكمها الشرعي حتى تكون الأمة على بصيرة بها، فإن كانت حلالاً وجب عليها الأخذ بها، وإن كانت حراماً تجنبتها، وأخذت ببدائلها.
سبب هذه النازلة:
أولا: ما سبقت الإشارة إليه، من التطور التقني المذهل الذي تعيشه البشرية.
ثانيا: التسابق المحموم إلى التسلح، إما بقصد الدفاع، وإما بقصد التسلط والاستيلاء على ثروات الدول والشعوب.
ثالثا: حاجة الأمة الملحة لها؛ من أجل حفظ الكليات الخمس الضرورية، وهي: الدين والعقل والنفس والمال والعرض.
رابعا: تغير الأعراف، ففيما سبق كانت القوة الحربية في السيف والرمح، وأما الآن فإن القوة في الطائرات، والصواريخ، والغواصات وغير ذلك مما نراه في الجيوش الحديثة.
المبحث الأول: التعريف بأسلحة الدمار الشامل.
المطلب الأول: تعريفها في اللغة.
أسلحة: جمع سلاح، وهو آلة الحرب وما يقاتل به[5].
الدمار: الهلاك[6].
الشامل: مأخوذ من قولهم: شملهم الأمر إذا عمهم، فالشامل العام، ومنه: الشملة الكساء[7].
فأسلحة الدمار الشامل هي: آلات الحرب التي تعم بإهلاكها.
المطلب الثاني: تعريفها في الاصطلاح العسكري.
لقد اصطلح المعنيون بأمر التسلح، على إطلاق (أسلحة الدمار الشامل) على ثلاثة أنواع من الأسلحة، هي: السلاح النووي، والسلاح الكيميائي، والسلاح البيولوجي[8].
أولا:الأسلحة النووية.
وتسمى بالسلاح الذري، نسبة إلى النواة والذرة، وهي قنابل شديدة الإنفجار، تعتمد على الطاقة المنطلقة من تحويل جزء من المادة، بتحطيم النواة الذرية لبعض العناصر، كاليورانيوم[9].
ويدخل في السلاح النووي القنبلة الهيدروجينية، والقنبلة النترونية، التي تسمى بـ(السلاح النظيف)؛ لأنها عند انفجارها تطلق أشعة تقتل البشر دون أن تدمر المنشآت[10].
ثانيا:السلاح الكيميائي.
هو كل مادة تسبب ألماً أو تسمماً في جسم الإنسان، سواء كانت غازاً كالكلور، أم سائلاً كالخردل، أم جسماً صلباً كالكلور استوفينون، ومن أفتك هذه المواد غاز الخردل[11]، وكذا غاز الأعصاب.
ثالثا: السلاح البيولوجي.
ويسمى أيضاً بالسلاح الجرثومي، والبكتيريولوجي، نسبة للجراثيم والبيكتيريا.
وهو استعمال الكائنات الحية، أو سمومها لقتل الإنسان، أو إنزال الخسائر به، أو بممتلكاته، من ثروة حيوانية أو نباتية[12]، ومن الأمراض التي تسببها الطاعون، والكوليرا، وغيرهما من الأوبئة.
المبحث الثاني: حكم استعمال هذه الأسلحة.
المطلب الأول: حكم استعمالها في القانون الدولي.
لقد صدر حظر لاستعمال الأسلحة الكيميائية في مؤتمر جنيف عام 1925م، بعد أن استعملها الجيش الألماني في الحرب العالمية الأولى ضد الحلفاء[13].
وأما الأسلحة النووية فقد صدرت فتوى[14] من محكمة العدل الدولية بمشروعية التهديد بالأسلحة النووية، واستخدامها، بتاريخ 8 يوليو 1996(حسب القانون الدولي المطبق حالياً) واستندوا في ذلك على مايلي:
1- أن القانون الدولي لا يحرم الأسلحة النووية بصراحة.
2- أن نصوص القانون الدولي الإنساني ـ قانون النزاعات المسلحة ـ لا تنطبق على هذه الأسلحة.
3- أن القرارات الدولية بخصوص هذه الأسلحة غير مجمع عليها.
4- أن من حق الدولة المعتدى عليها أن تستخدم حق البقاء؛ باسم الدفاع الشرعي عن النفس.
وهناك قول آخر يرى منع هذه الأسلحة بناء على مواد قانونية أخرى[15].
ولذلك نرى الدول الكبرى ـ ممن تملك هذه الأسلحة ـ تسعى حثيثة؛ لتحمل الدول على التوقيع على معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية؛ لتقطع عليها الطريق لامتلاكها، وهي تسلك في ذلك الابتزاز والضغوط السياسية والاقتصادية بأنواعها، وربما لوحت بالتأديب العسكري، والله المستعان.
المطلب الثاني: حكم استعمالها في الشريعة الإسلامية المطهرة.
اختلف العلماء والباحثون في حكم هذه الأسلحة على قولين:
القول الأول: أنها مباحة، بل من القوة الواجبة، التي أمر المسلمون بإعدادها لمواجهة أعدائهم، وبهذا قال أكثر من بحث هذه المسألة، ومنهم: محمد بن ناصر الجعوان في كتابه: "القتال في الإسلام ـ أحكامه وتشريعاته"، وأحمد نار في كتابه: "القتال في الإسلام"، ومحمد خير هيكل في كتابه: "الجهاد والقتال في السياسة الشرعية"، وهو مقتضى قواعد أهل العلم في هذا الباب كما ستأتي إن شاء الله نصوص كلامهم.
ومن الأصول التي بنوا عليها:
أولا: عموم قول الله تبارك وتعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُون) (الأنفال:60).
قال الألوسي: "أي: كل ما يتقوى به في الحرب كائنا ما كان"[16].
وقال الشيخ محمد رشيد رضا: "وقد جزم العلماء قبله ـ أي قبل الرازي ـ بعموم نص الآية"[17].
وقال السعدي: "فدخل في ذلك أنواع الصناعات التي تعمل فيها أصناف الأسلحة والآلات، من المدافع والرشاشات والبنادق والطيارات الجوية، والمراكب البرية والبحرية، والقلاع والخنادق، وآلات الدفاع، والرأي والسياسة التي بها يتقدم المسلمون، ويندفع بها شر أعدائهم"[18].
ثانيا: إرهاب وردع أعداء الإسلام؛ حتى لا تسول لهم أنفسهم الاعتداء على المسلمين، وهذا مأخوذ من قوله تعالى في الآية السابقة: (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ)(الأنفال من الآية 60).
قال الشيخ السعدي: "وهذه العلة موجودة فيها في ذلك الزمان، وهي إرهاب الأعداء، والحكم يدور مع علته، فإذا كان موجوداً شيء أكثر إرهاباً منها...كانت مأموراً بالاستعداد بها، والسعي لتحصيلها، حتى إنها إذا لم توجد إلا بتعلم الصناعة وجب ذلك؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب "[19].
والردع مبدأ سياسي تعتمده الدول في سياساتها الدفاعية، وعَرَّفه صاحب كتاب الاستراتيجية العسكرية المعاصرة (ص80) بقوله: "هو مصطلح شائع في عالم السياسة معناه: منع الخصم من أن يقوم بما لا يرغب الرادع أن يقوم به".
وقيل: "إنه مجموعة تدابير تعدها أو تتخذها دولة واحدة، أو أكثر، تخوض صراعا سياسيا من أجل خلاف بينها؛ بغية عدم تشجيع الأعمال العدائية، التي يمكن أن تشنها دولة أو مجموعة دول معادية، وذلك عن طريق بث الذعر في الطرف الآخر؛ بهدف ثنيه عن الإقدام على أي عمل عدائي"[20] ، وهذا واضح، ومطابق للمقصد الشرعي.
ومن ينظر في أحوال الأمم في هذا الزمن، يرى قيمة امتلاك مثل هذه الأسلحة، وأثرها في دفع العدوان قبل أن يقع، وقد ذكروا أن مما منع قيام حرب بين أمريكا وروسيا أيام الحرب الباردة، هو امتلاك كلا الطرفين لهذه الأسلحة، مما خلق حالة من التوازن؛ لخوف كل طرف من أن يستعمل الطرف الآخر تلك الأسلحة المدمرة.
ثالثا: قول الله عز وجل: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِين) (الأعراف:133)؛ فإن هذا العذاب الذي سلطه الله تعالى على فرعون وقومه، يشبه إلى حد بعيد الأسلحة البيولوجية الحديثة، فتقاس عليه في جواز رمي الكفار بها.
قال الخطيب الشربيني الشافعي: "ورميهم بنار ومنجنيق، وما في معنى ذلك، من هدم بيوتهم، وقطع الماء عنهم، وإلقاء حيات أو عقارب عليهم، ولو كان فيهم نساء وصبيان"[21].
وما ذكره من حيات وعقارب، يقاس عليه السلاح البيولوجي والكيميائي، بجامع السُّمِّية.
ولكن ينبغي أن يقيد ذلك بأن لا يمكن تجنب النساء والصبيان؛ للنهي عن قتلهم كما سيأتي.
رابعا: قول الله عز وجل: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ) (النحل من الآية126)، وجه الاستدلال بالآية أن الله عز وجل أباح لنا أن نرد على من آذانا بمثل أذيته، وعليه فمن قاتلنا بمثل هذا السلاح قاتلناه به.
قال الألوسي: "وإذا لم يقابلوا بالمثل عَمَّ الداء العضال، واشتد الوبال والنكال، وملك البسيطة أهل الكفر والضلال، فالذي أراه ـ والعلم عند الله تعالى ـ تعين تلك المقابلة على أئمة المسلمين، وحماة الدين"[22].
خامسا: تحريق النبي صلى الله عليه وسلم لنخل بني النضير[23]، وجه ذلك أن هذه الأسلحة على اسمها تدميرها يشمل النبات والحيوان، ومنها ما يعمل عمل النار في الإحراق والتدمير.
قال الإمام أبوحنيفة: "لا بأس بقطع شجر المشركين ونخيلهم، وتحريق ذلك؛ لأن الله عز وجل يقول: (مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ)(الحشر:5)"[24].
ولكن ينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يمكن الظفر بهم بدون ذلك[25].
سادسا: ما روي من أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى أهل الطائف بالمنجنيق[26]، والمنجنيق يعم به الإهلاك، وهذه الأسلحة مثله في ذلك.
قال ابن قدامة: "ويجوز نصب المنجنيق عليهم، وظاهر كلام أحمد جوازه مع الحاجة وعدمها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف"[27].
وقال الخطيب الشربيني: "ولأنه صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف ورماهم بالمنجنيق، وقيس به ما في معناه مما يعم به الهلاك"[28].
سابعا: قوله صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)[29] ، وهذه الأسلحة من أمور الدنيا لا شك.
ثامنا: قاعدة (الوسائل لها أحكام المقاصد)، ولما كان القصد من هذه الوسائل هو تحقيق القوة والأمن للمسلمين، فإن حكمها حكم هذا المقصد الشرعي المطلوب[30].
تاسعا: قاعدة (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، وذلك أن الإعداد للجهاد واجب، وحفظ الأمة من أعدائها واجب، ولا يتحقق هذان الواجبان إلا بهذه القوة الحديثة.
عاشرا: أن الأصل في الأشياء الإباحة.
الحاديعشر: قاعدة الضرورات تبيح المحظورات، وجه ذلك أنه إن سلم أن هذه الأسلحة مما لا يجوز استعماله شرعا، فإن المحرم يباح عند الضرورة، فإذا لم يندفع العدو إلا بها، فهي جائزة.
القول الثاني: أنها غير جائزة، وممن انتصر لهذا القول الدكتور إسماعيل إبراهيم أبوشريفة في كتابه: "نظرية الحرب في الشريعة الإسلامية".
ومما استدلوا به:
أولا: عموم قول الله عز وجل
وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين)(البقرة من الآية195)، فعموم الأمر هنا يشمل حتى طريقة القتل في جهاد الكفار، والقتل بهذه الأسلحة ليس من الإحسان في شيء، ويوضح هذا الأصل الثاني.
ثانيا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة)[31] ، و(القِتلة) بكسر القاف معناها صفة القتل، والقتل بهذه الأسلحة ليس من الإحسان.
ثالثا: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة[32]، والقتل بهذه الأسلحة فيه تمثيل بمن يقتل بها.
رابعا: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الصبيان والنساء[33]، واستعمال هذه الأسلحة ذريعة لقتلهم.
ويمكن أن يجاب عما مضى، بأن وقوع ذلك هو على سبيل التبع، وليس أصلا، والقاعدة عند العلماء: أنه يثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا[34].
ويؤيد هذا ما رواه الصعب بن جثامة رضي الله عنه قال: مرَّ بي النبي صلى الله عليه وسلم بالأبواء أو بِوَدَّان وسُئِلَ عن أهل الدار يُبَيَّتون من المشركين، فيصاب من نسائهم وذراريهم، قال: (هم منهم) [35].
قوله: (يُبَيَّتون) أي: يغار عليهم بالليل فلا يعرف الرجل من المرأة من الصبي.
وقوله: (هم منهم) أي: هم في حكمهم، في جواز قتلهم، إذا لم يمكن التمييز بينهم، ولم يتعمد قتلهم، وبهذا قال جمهور الفقهاء[36].
خامسا: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: (إن وجدتم فلانا وفلانا فأحرقوهما بالنار) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج: (إني أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما)[37].
فنهى عن القتل باستعمال النار، وبعض أسلحة الدمار شامل تحرق كما تحرق النار، بل أشد، فتكون أولى بالتحريم.
ويمكن أن يجاب عن هذا بأن هذا الحكم من حيث الأصل، ولكن لو فعلوا بنا ذلك، كان لنا الحق في دفع اعتدائهم بالمثل[38].
سادسا: أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، وجه ذلك أن تصنيع مثل هذه الأسلحة فيه مفاسد ظاهرة على البيئة والإنسان، كما أن تخزينها ليس بالأمر الهين، فإن تسرب بعض هذه المواد يسبب حوادث خطيرة، وانتشاراً لأمراض مستعصية، وما حادثة تشرنوبيل عنا ببعيد، ولا زالت آثارها إلى يوم الناس هذا[39].
ويجاب عن هذا بأن هذه القاعدة مسلمة إذا كانت المفاسد أعظم من المصالح، وأما إذا كانت المصالح أعظم، فإن تحصيلها مقدم على درء المفاسد، كما أنه إذا أمكن تحصيل المصالح ودفع المفاسد، فعلنا ذلك[40].
وجه آخر: أن هذه الأسلحة ليست شرا محضا، بل كما تستعمل في القتال، فإن لها استعمالات مفيدة في نواحي شتى، في الزراعة، وتوليد الطاقة، ومحاربة الأمراض والأوبئة، وغير ذلك من المباحات التي تقوم عليها الحياة.
القول المختار:
والذي أختاره هو القول الأول، وهو وجوب اتخاذ هذه الأسلحة، ولكن لا بد في ذلك من ضوابط؛ مراعاة لما ورد في القول الثاني:
الأول: ألا يندفع العدو إلا بها، قال الموفق: "أما العدو فإذا قدر عليه، فلا يجوز تحريقه بالنار بلا خلاف نعلمه"[41].
الثاني: ألا يترتب على استعمالها ضرر على المسلمين؛ فإن دفع المفاسد أولى من جلب المصالح، إلا إذا كانت مصلحة استعمالها تفوق مفسدتها.
الثالث: أن يكون استعمالها بقدر الحاجة؛ من أجل الاستفادة مما يخلفه العدو من أموال وعتاد، وهي غنائم الحرب.
الرابع: أن يتقى في استعمالها الأماكن المأهولة بالنساء والأطفال، إلا على سبيل المعاقبة بالمثل، أو على سبيل التبع، وعدم إمكان تجنبهم.
شبهة وجوابها:
فإن قيل: إن الإسلام دين الرحمة، فكيف تسوغون استعمال هذه الأسلحة؟
فالجواب ما قاله الشيخ محمد رشيد رضا: "نعم إن الإسلام دين الرحمة...ولكن من الجهل والغباوة أن يعد حرب الأسلحة النارية للأعداء الذين يحاربوننا بها من هذا القبيل، بأن يقال: إن ديننا دين الرحمة، يأمرنا أن نحتمل قتالهم إيانا بهذه المدافع، وأن لا نقاتلهم بها؛ رحمة بهم، مع أن الله أباح لنا في التعامل فيما بيننا أن يجزى على السيئة مثلها، عملا بالعدل، فقال: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ) أفلا يكون من العدل، بل فوق العدل في الأعداء، أن نعاملهم بمثل العدل الذي نعامل به إخواننا؟!"[42].
ومن نظر بعين البصيرة في حرب العراق، وفي حرب غزة الأخيرة، تأكد له وجوب الأخذ بأقصى أسباب القوة، وألا نبقي في قلوبنا رحمة لمن يتفنن في قتل أطفالنا ونسائنا، ويدمر أرضنا، فإن الرحمة في هذا المقام سبيل الضعفاء، ومن قلت حيلته.
الخاتمـــة :
وأنا ذاكر فيها أهم نتائج هذا البحث:
- سعة الشريعة الإسلامية وإحاطتها بحوادث الزمان.
- أهمية النظر في عمومات النصوص قبل اللجوء إلى غيرها من الأدلة.
- أهمية الإعداد المادي في الجهاد الإسلامي.
- وجوب أخذ العدة والاستفادة من الصناعات العسكرية الحديثة.
- مبدأ الإرهاب والردع في شعيرة الجهاد الإسلامي، وهو حق مشروع في القانون الدولي.
هذا آخر ما تيسر نقله، والعلم عند الله تبارك وتعالى، والموضوع لا يزال محتاجا إلى دراسة أعمق، وبحث أدق، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]